غراب غزال
الساعة السابعة و أربعون دقيقة صباحا..و لحن عاصف يكرره الصدى يعزف خارجا بين أزقة القرية..بيت المزارع أنور ينفرد وحيدا في آخرها..تطل نافذتيه المؤطرتان بإطار خشبي مهترىء على جبل شامخ شحيح الأشجار يلتحف رداءه الثلجي أغلب أوقات السنة.
إنه بيت كئيب الألوان..بغرفتين متوسطتي الحجم و مرحاض و غرفة ضيقة جدا تستخدم كحمام و غرفة أخرى قرب الدرج تستخدم كمطبخ..يؤدي الدرج إلى سطح البيت..حيث يحتفظ أنور بأدوات الصيد و بقية الأغراض التي يستعين بها لصنع السمك المدخن صيفا عندما يكون الصيد وفيرا..أما الآن! فالنهر متجمد لدرجة أنهم يعبرونه مشيا مع خرافهم و نعاجهم و لا يتشقق جليده أو يحدث فيه شرخ ولو كان صغيرا.
غزال هي إبنة أنور البكر..إنها فتاة ذكية تبلغ ثمان سنوات من العمر و لكن موارد والدها المالية لا تسمح لها بإرتياد المدرسة كبقية أقرانها..لذا تستيقظ غير مجبرة في هذا الصباح البارد على صوت إرتعاش إبريق الشاي القديم فوق الموقد..و سعال جدتها الخافت من الغرفة المجاورة..
قامت من مكانها و إعتدلت في جلستها..تأملت شقيقها الصغير مصطفى لبعض الوقت..ملفوفا في بطانيته البنية كسيجار عتيق..لا يظهر منه شيء بخلاف ملامحه الناعمة البريئة و خصلة ذهبية تتدلى من مقدمة رأسه يعبث بها الهواء الخفيف الذي ينفثه شيش النافذة..تنام غزال في تلك الغرفة مع والدتها و شقيقها ذي الثلاثة أعوام..و ينام في الغرفة المجاورة والدها أنور و أمه العجوز المريضة..إنهم على هاته الحال منذ سنة تقريبا.
يتدفأ مصطفى بتلك البطانية الخشنة و حضن والدته..بينما تخجل غزال من الإلتصاق بوالدتها حتى تتدفأ ليلا فهي باتت تشعر أنها كبيرة الآن!..لذا ترتدي ما أمكنها من الثياب و تضع جواربها الصوفية الطويلة التي حاكتها جدتها من أجلها قبل تدهور صحتها و تلتحف بطانيتها الزرقاء ذات الورود البرتقالية باهتة الألوان ثم تثني بدنها الهزيل لتنام في وضعية الجنين أخيرا..
هذا ما يحصل في كل ليلة شتوية..فلا طريقة أخرى في الحصول على الدفىء..بما أن المدفأة القديمة التي تشتعل بالزيت و الحطب..تنفرد بها الجدة المريضة..و ربما كان ذلك موضوع الجدال..الذي إحتدم مجددا هذا الصباح و لكن بأصوات هامسة خافتة بين المزارع أنور و زوجته.
تسللت غزال لتقف بقرب باب المطبخ و حاولت فهم ما يجري..فهي بالنهاية بدأت تكبر و يتملكها فضول شديد في إستيعاب ما يدور حولها.
"الفتاة كبرت و لم تدخل المدرسة بعد..مصطفى بحاجة لطعام جيد حتى ينمو و المدفأة القديمة تخص أولادك..هل تعلم كم نصرف من المال على دواء والدتك؟ و طعامها و الطبيب! بينما يتضور أولادنا جوعا و يعانون البرد و المشقة"
"أتقولين لي دع أمك تموت؟"
"حالتها تسوء..إنها بحاجة لعملية في القلب..تلك العملية مكلفة..حتى لو عملنا ليل نهار لن نقدر على تغطية التكاليف"
"نسبة نجاح العملية كبيرة..إذا جمعنا المال الكافي..ستشفى والدتي..إصبري قليلا بعد"
"تشفى؟ و ثم ماذا! إنها غير قادرة على العمل..في كلتى الحالتين ليست سوى عبئا..حتى ولو شفيت"
"يمكنها حينها على الأقل الإعتناء بالأولاد" يقول ذلك ثم يقوم من مكانه ولا يضيف كلمة واحدة..يصادف غزال عند الباب فيربت على رأسها و يخرج.
شعرت غزال بالسوء الشديد إتجاه جدتها..دخلت إلى المطبخ و نظرت مليا في ملامح والدتها..حدقت بغضب..غضب لا يمكن أن تصفه بالكلمات..هاته الملامح الشابة التي باتت على حافة الشيخوخة بعد أن أكل منها الهم و التعب..علتها إبتسامة حزينة خافتة قتلت القليل من الحنق العالق بحلق غزال..فهمست بتردد.."لا تحبين جدتي؟ تريدينها أن تموت"
قامت الأم بهدوء من على المقعد الخشبي..وضعت كوبين من الشاي و رغيفي خبز و كوب ماء شبه ممتلىء و نصف حبة دواء على صينية خشبية رديئة الصنع ثم أجابت "أحبك و أحب مصطفى و أريدكما أن تعيشا و أن لا تعانيا من هاته الظروف القاسية"..
حملت غزال الصينية في صمت و فكرت لأول مرة أنه لا وجود لشر مطلق ولا لخير مطلق..ربما من طبع الإنسان أن يجمع الإثنين معا..بإمكانه أن يكون أنانيا و يقدم مصلحته و مصلحة من يحب على مصالح الآخرين..و على حياتهم حتى..كما يمكنه أن يضحي بنفسه لصالح من يحب خلال ممارسته لطبعه الأناني الذي عادة ما يذمه الناس..ذلك معقد و عصي الفهم على غزال..بما أن عائلتها هم أول من يناقض المبادىء التي حرصو على تلقينها إياها منذ أن تعلمت المشي و تكوين الجمل.
دخلت الغرفة تسير في هدوئها المعتاد..كانت جدتها متسطحة على ظهرها تراقب السقف كما جرت العادة..تتنفس بمشقة..و تسعل بين الفينة و الأخرى..لقد إستشعرت كيان غزال قرب الباب..فنظرت إليها بعطف..ثم إبتسمت بفرح و زادت التجاعيد و الانكماشات حول عينيها اللوزيتين و قالت بصوتها المجهد.."صباح الخير يا غزال"
"صباح الخير جدتي..جئتك بالإفطار..لنتناوله سويا..فلتجلسي من فضلك..سأعطيك حبة الدواء أولا"
إستجابت الجدة لطلب حفيدتها فجلست ثم وضعت غزال الصينية الخشبية على المائدة الصغيرة المستديرة ذات الثلاث قوائم..و أعطت حبة الدواء الثمينة و كوب الماء لجدتها..حتى سمعتا خطوات سريعة تقترب نحو الغرفة..إلتفتت غزال فوجدت والدتها تقف وقفة جندي مستعد لخوض معركة طاحنة مرتدية المعطف الإعتيادي القديم ذي الأزرار المختلفة و قالت كما جرت العادة.."ساعدي مصطفى في الإغتسال عندما يستيقظ و أطعميه و إعتني به حتى أعود"
قالت ذلك و ثم خرجت للعمل..لم ترفع بصرها حتى لتنظر في ملامح تلك المرأة العاجزة..فمن داخلها قد لامتها ولامت مرضها على كل شيء..الفقر و خلافاتها المتكررة مع زوجها و ضياع ما تجنيه من مال قليل في حبات دواء تؤخذ متفرقة خلال النهار..لا نفع منها سوى إطالة عمر العجوز لبضع سنوات أخرى..لتلبث في مكانها ذاك لا تنفعهم في شيء..بل تزيدهم هما و ألما.
تنهدت غزال و نظرت إلى وجه جدتها الليموني الشاحب بأسف.."تغيضك أمي؟ أنا أعتذر..إنها لا تلقي عليك التحية حتى"
"لا بأس بذلك يا طفلتي..لست غاضبة..إنها تبذل ما تملك من جهد و صحة في تنظيف الزرائب و العمل في المزرعة..كي يصرف المال الذي تجنيه في النهاية على صحة عجوز شبه ميتة مثلي..إنني أعذرها..لو كنت مكانها لوددت أن يصرف المال الذي أجنيه على أطفالي أيضا..طلبت من أنور أن يدعني أموت و حسب..لكنه يصر على شراء الدواء من أجلي و دفع تكاليف الطبيب..لذا سآخذ هذا الدواء كل يوم بإمتنان و لن أتشكى من أي تصرف و لن أحمل بقلبي أي ضغينة"
لم تنبس غزال بأي حرف ردا على ذلك..أخذت حصتها من الخبز و خرجت من الغرفة..ألقت نظرة خفيفة خاطفة على مصطفى الغارق في سباته العميق و صعدت الدرج نحو سطح البيت..سارت و هي تحاذر الخطى..فالمطر الغزير من الليلة الماضية لم يتخلص تماما من آثار الثلوج التي هطلت طيلة الأسبوع..مازالت الأرضية زلقة و الجو ضبابي حزين بغيض..إنها تشتاق إلى الأيام الربيعية..لتعمل إلى جانب والدها في الصيد و تدخين السمك..وقفت بحسرة تراقب مرور كتل السحاب في السماء..و خصلات شعرها السميكة تلطم ملامحها البربرية بفعل الهواء..صوت تفكيرها كان أعلى من صوت الصفير في الجو..يا لها من جدلية فلسفية بأكثر من رأيين متضاربين هاته التي تلقي بها في شرود عميق.
إنها تقضم من الخبز دون أن تشعر بطعمه جيدا..هل لأنها إعتادته أم لأن هناك ما يعكر طعمه..أبي محق و أمي محقة أيضا..و ليس لدي ما أفعله بحيال ذلك..أكان الأمر ليكون مختلفا لو لم أوجد على الإطلاق؟ حينما تحصل أشياء مثل هذه..على من نلقي اللوم؟..وهل إلقاء اللوم نافع من الأصل؟..لا..إنه لا يأتي بالحلول ولكن..مازلت أود أن أفهم..لماذا؟ و كيف حتى آلت الأمور لهاته الحال؟
و بينما هي كذلك..قاطعها نعيق غراب حاد..ففزعت..بحثت على إمتداد بصرها بعيدا في السماء و لكن تكرر النعيق و هو قريب جدا..نظرت إلى الأرض..و إذا بها تجد غرابا متوسط الحجم..فاحم اللون يحرك رأسه بحركة سريعة و كأنه يرجو منها شيئا..و يود لفت إنتباهها.
"غراب!" صرخت بذلك و تحركت بضع خطوات تقصد المخرج.."إنه أكبر مما يبدو عليه حينما يكون على الشجر"..تذكرت بعدها أن والدتها أخبرتها مرارا و تكرارا..أنه فأل شر و ينذر بالخراب و الفقر و المرض و الموت..كانت حالة العائلة مزرية كفاية..لا تستدعي نعيق غراب أسود كي يجعلها أسوء مما هي عليه..و ببراءة الطفل الكبيرة داخلها..نزلت دموعها و رجته بصوت مرتجف "عد إلى عشك أرجوك..جئت لتأخذ جدتي؟ أو لتأخذ منا قليل المال الذي نجمعه من أجل العملية؟"
لكن الغراب و على ما يبدو جاء من أجل الخبز..تحرك نحوها بينما تبكي و بدى أنه يعرج..ربما هو مصاب ولا يقدر على توفير الطعام لنفسه..و قد أغراه قرص الخبز الأسمر ذاك..وقفت غزال مكانها تراقبه جيدا..إن بريق عينيه بريء و هو يتوسل بنعيقه المتقطع..ينظر تارة لوجه غزال و تارة أخرى إلى الخبز..لسبب ما بدى كالأطفال..بالنسبة لغزال إنه بلطافة شقيقها الأصغر تقريبا..لذا تشجعت و عادت خطوتين للوراء..فدنى منها أكثر.
و راح يرنو بتلك النظرات المتوسلة فاتحا منقاره ينتظر من قلب غزال أن يلين..و بعد دقائق من الإنتظار..كان له ما طلب..فمن حسن حظه أنها طفلة..إقتربت منه منتزعه جزءا يسيرا من الخبز و أطعمته قائلة "ولكن ما ذنبك أنت في لونك الأسود! لا أعتقد أنك تستحق الموت جوعا"..جلست بوضعية القرفصاء و أطعمته قليلا بعد لكنه لم يكتفي حتى أنهى الخبز عن آخره..ووقف في محله يرمقها بنظرات الإمتنان و حتى أنه سمح لها بأن تداعب ريشه و تظل إلى جواره بعد نفاذ الطعام..
" أرجوك أن لا تلقي علينا بالألم و التعاسة..ألن تفعل؟"..يظل الغراب يحدق و هو متيم بملامح منقذته الصغيرة الربانية..عيناها الواسعتان بندقيتا اللون و الحمرة الطفيفة على أنفها و خديها و شعرها الطويل ذو اللون البني الداكن.
"إسمع إبقى صامتا لا تنعق..إذا وجدتك أمي ستطردك و ستحبط و يتعكر مزاجها أكثر من هذا..أنت لم تقدر على جلب لقمة تأكلها إنني موقنة بأنك لن تقدر على جلب الدمار أيضا..لكن لا تفضح سرنا الصغير..إذا بقيت هادئا فسأعود من أجلك غدا"
و كانت غزال عند الوعد..في تلك الظروف الصعبة المحيطة بها لم تمانع أن ترفه عن نفسها بمصاحبة غراب يلتهم حصتها من الخبز كل صباح مقابل نظرات بريئة لطيفة و تقليد بعض الحركات التي تعلمها رغم أنه يدرك بأن غزال لا تستوعب جيدا بأنه يحاول أن يلعب.
بقي السر في الحفظ و الصون لمدة أيام قليلة أخرى..و لكن في صباح ما عاد أنور من العمل بعد خروجه من البيت بوقت قصير..أحنى قامته الطويلة كي يعبر من المدخل..حك ذقنه الذهبية الغزيرة و ثم نزع قبعته الصوفية بأسى..يبدو أن شيئا سيئا قد حدث فقد لحقت به زوجته بعد لحظات و حصل بينهما خلاف ما.
سمعت غزال الصراخ لذا حاولت إخفاء الغراب في مكان ما قبل أن تأتي والدتها فتكتشف وجوده..و بينما تحاول إقناع غرابها بالتخفي..دخلت والدتها.
"ماذا تفعلين هنا؟..ماما"
"أبوك طرد من المزرعة لأنه لم يسدد ديونه..سنبيع أدوات الصيد"
"و بما سنصيد عندما يحل الربيع؟"
"لا أدري..ماذا تفعلين أنت هنا؟"
"أنا..أنا..شعرت فقط بالملل..لذا"
"غزال الجو بارد..عودي إلى الأسفل"
"حسنا" تقول غزال ذلك و لكنها لا تبرح المكان لأنها تخفي الغراب خلف ثوبها.
"ماذا؟..تخفين شيئا"
"لا!" بمجرد أن نفت غزال ذلك..نعق الغراب عاليا..و ياله من صوت محطم للفؤاد و محبط للآمال..أوقعت والدة غزال ما كانت تحمل بيديها و أسرعت لتدفع غزال بعيدا.."إبتعدي عنه..غراب؟ هذا ما كان ينقصنا..هل كنت تعتنين بهذا الشيء؟..أوضاع جدتك تزداد سوءا..والدك خسر وظيفته..المال القليل الذي أحصل عليه لا يكفي و سنبيع أشيائنا الآن لنسدد الديون..و أنت كنت تعتنين بغراب! أنظري إنه يسير ورائك..يعرفك هذا الكائن يا غزال..كل مصائبنا بسببه إذا..تخلصي من هذا الشيء حالا"
إنهمرت الدموع دفعة واحدة من عيني غزال البائستين و صرخت بغيض.."لا تلوميه على مشاكل أنتم سببتموها"..لطالما كانت فتاة هادئة و مطيعة و هاته الجملة التي إنطلقت منها بينما هي منفعلة غير متوقعة و صادمة..تسببت لها في صفعة من يد والدتها الباردة..زادت خدها المتورد إحمرارا.."قلت تخلصي منه..الآن"
حزنت غزال لأنها مضطرة أن تنفصل عن صديقها الجديد سريعا..و لم تكفي تلك القبلة التي حصلت عليها من والدتها لاحقا كإعتذار لتضميد خاطرها الكسير..لم تعد تتناول خبزها كل صباح..و لم تعد تسمع نعيقا على السطح..لابد و أنه إنتظرها لمرات و لكنه رحل دون وداع..دون أن يربت أحدهم على رأسه أو يعبث بريشه..لقد إختفى آثره لما يقارب الأسبوعين..و إحتفظت غزال بإحدى ريشاته الداكنة كذكرى.
ذات صباح و بينما الجميع بالخارج..نعيق قريب لحوح يدوي على سطح المنزل..لم تتمكن غزال من الإحتفاظ بوعدها لوالدتها..و ركظت بضحكة فرحة تستقبل مؤنسها الوفي..الذي عاد للزيارة رغم الطرد العنيف المذل الذي تعرض له..و لم يأتي خالي الوفاض..بل جاء بهدية ثمينة جدا..سبيكة ذهبية صغيرة بنقش لمريم العذراء..عليها بعض من الطين و قليل من بقايا العشب.
قبلت غزال الهدية بخجل..من ذا الذي يقبل سبيكة ذهب مقابل قطع يابسة من الخبز الأسمر!..بالنسبة للغراب فذلك الخبز ثمين لأنه حافظ على حياته و ساعده على التعافي..و أما القطع اللامعة التي إعتاد على جمعها ليضعها في العش..فهي ليست ذات قيمة حقيقية بالنسبة له..و لن تشكل فرقا كبيرا سواء أهداها أو رماها أو إحتفظ بها.
و أدركت غزال..أن الهم و الشؤم و الألم في كثير من المرات هي وليدة قرارات البشر..و ليس لضبيح البوم ولا لنعيق الغراب ولا للقطط السوداء يد في الموضوع..كلها مخلوقات ولدت لتجد نفسها على تلك الحال..تكافح أيضا من أجل النجاة و البقاء..و تستحق أن ينظر إليها بعطف و أن تتم معاملتها برقة و إحسان.
إرسال تعليق