حلم المدينة الفاضلة

 لا بد و أنها أفضل ليلة سبت يعيشها سامي خريج كلية الحقوق بعد تلك الليلة التي أنهى فيها إمتحانه الآخير..إنها ليلة تشبه ليالي الأعياد في وطنه الأم..إلا أنها ذات قيمة حقيقية..فرصة لم تسول له نفسه أن يتخيل الحصول عليها حتى..و لكن من المعجزات أنها تحققت. 


فهو الآن متأنق كما لم يكن من قبل في حياته..يرتدي بدلته السوداء ذات المقاسات المضبوطة..و يضع عطره الأصلي الثمين الذي إدخر مدخول ثلاثة أشهر من أجله..ساعته التي عكف على تلميعها لمدة تقارب الساعة تعكس أنوار لندن الليلية التي تشبه في ألوانها المائلة للحمرة الأثر الذي يحدثه الغروب..يحرك مقود سيارة الرولز رويس الإنجليزية الفاخرة..وهو لا يصدق أن راحتا يداه نالت هذا الشرف..يرسم إبتسامة نصر على شفتيه الرفيعتان و يدندن لحنا ما بينما يهز رأسه وهو يقود نحو الوجهة. 


إنه و إبتداء من اليوم..سائق خاص لأحد أهم القضاة..لطالما كان سامي معجبا به كقاضي و كشخص أيضا..وهو الآن متحمس للقائه أكثر من أي شيء آخر..و كيف لا يكون كذلك! إنه في طريقه لمقابلة قدوته..رجل وقور..سجله يعج بالإنجازات..ذو كاريزما عالية..ظل نظيفا و لم تطله إشاعة واحدة أو أتهم ولو لمرة بالفساد رغم إنتمائه للطبقة الأرستقراطية..لابد و أنه على قدر عالي من الثقافة..و معرفته بمختلف الأمور واسعة..حتى في ملامح وجهه بدى عظيما..يخالط الشيب شعره الأسود القليل..و يبرق بؤبؤه الداكن الشبيه بأزرار قمصان الجينز من خلف زجاج نظارته الطبية..يظهر وجهه الحليق واسعا و وجنتاه ممتلئان..و يستخدم حواجبه الكثة للتعبير عن حالته المزاجية دائما دون الحاجة للكلمات..إنه رجل يدرس كل شيء بدقة بالغة..يعرف متى يجب أن يفرج عن بسمته و متى يكون صارما و ربما قاسيا أحيانا..لم يحكم مشاعره في أي قضية مهما حصل..و لطالما كان منطقيا و مقنعا و بدى أهلا للثقة..يا له من رجل عظيم! 


لكن لسبب ما..لديه مشكلة مع السائقين تحديدا..و لهذا السبب بالذات يرى سامي هاته الفرصة و كأنها لقمة خطفها من بين فكي أسد..إنه لا يستوعب جيدا كيف تمكن من الظفر بالوظيفة..فعادة لا يعتمد أي أحد على شاب صغير السن..قليل الخبرة في القيام بعمل هام كأن يكون سائقا تحت خدمة رجل مهم و عائلته..ما كان كل ذلك ليحدث لولا الإستقالة المتكررة لسائقي القاضي لسبب ما..و لأنه أضطر لذلك..قبل بسامي كسائق خاص رغم مؤهلاته البسيطة. 


يرى هذا الأخير أن الحظ إبتسم له أخيرا و سيثبت أنه رجل جدير بهذا المنصب..من يأبه لقاعات المحاكم و قضايا الحضانة و الطلاق!..قرر سامي بالفعل أن يحتفظ بهاته الوظيفة و سيعيش بعدها كرجل سعيد..خاصة بعد يومه الأول الإيجابي..ناتاليا إبنة القاضي الصغرى كانت غاية في اللطف..أوصلها إلى المعهد الموسيقي و تفاعلت معه بشكل إيجابي..كما أن والدتها سيدة محترمة رافقها للسوق و إشترت من أجله علبة بسكويت و قنينة ماء منكه كأنه طفل يتلقى مكافئة على عمل محمود..لا بد و أن القاضي أكثر لطفا و أشد كرما من بقية أفراد أسرته..لعلهم إخذو منه هاته الصفات! 


و أخيرا يصل إلى الوجهة..إن الساعة تشير إلى منتصف الليل تقريبا..و من هذا الفندق الذي ركن سامي السيارة عنده..سيخرج الرجل الذي ساهم في رفع هرمون الدوبامين لديه لأعلى مستوياته لهذا اليوم..وخزة شهية من التوتر تلقاها سامي و هو ينتظر بينما يقرع برؤوس أصابعه على المقود..و يحرك عينيه في محجريهما منتقلا بين المرايا و زجاج السيارة..متلهفا ليرمق الرجل المنتظر في أي لحظة.. 


و بعد فترة بسيطة من الإنتظار طعمها كطعم عقد من الزمن..خرج السيد القاضي من الباب أخيرا..لقد بدى أقصر قليلا و أثخن بعض الشيء لكنه ما يزال هو..الرجل العظيم القدوة..فأسرع سامي و خرج حتى يفتح له باب السيارة..و لكن رغم المسافة القصيرة بين باب الفندق و السيارة إستهلك القاضي فترة من الزمن قبل أن يصل..فقد كان يترنح من فرط الثمالة..يتأبطه أحدهم..و رائحة الكحول المنبعثة منه لا تحتمل.. 


بعد أن ألقى به ذلك الرجل في السيارة..إقترب و راح يفح هامسا.."إنه ثمل..ثمل تماما..يفترض بأن تطول السهرة أكثر من هذا..لكنه لا يقدر..أعده إلى مسكنه و تصرف طيلة الطريق و كأنك أصم".. 


لم يكتفي سامي بالإدعاء بأنه أصم بل إدعى أنه أبكم أيضا..و إنطلق متوجها نحو مسكن القاضي دون أن ينبس بحرف واحد..أول عشرة دقائق كانت مزيجا غريبا من الجو المتوتر و الأفكار المتضاربة..لم يتوقع أن يكون اللقاء الأول هكذا!..رمى بصره بإتجاه المرآة لما يقارب ستة مرات خلال تلك الدقائق العشر و الصورة ما تزال ثابتة لا تتغير. 


كرش القاضي فقط هي التي تتحرك بينما يتنفس بصعوبة..عيناه مغمضتان تماما و الحمرة الطاغية على  بشرته كأنها تنذر بإنفجار وجهه الممتلىء قريبا..ثم إستجمع قواه كلها فأرخى ربطة عنقه و نزع سترته و أشار بإصبعه على المذياع دون أن ينطق. 


إرتبك سامي و سأل "ماذا!! ماذا تريد سيدي؟ على ما تشير؟".. 


"شغل..المقطوعة العشرين" 


ضغط سامي بسبابته على الزر..و دون الكثير من البحث إشتغلت المقطوعة العشرين من ذكريات الماضي لفريدريك شوبان..أرخى القاضي عندها جسده على المقعد و تنهد تنهيدة عميقة..ثم أغمض عينيه بقوة و نذر ما بقي فيه من حواس للإحساس بالمقطوعة التي لطالما أحبها..


و عندما إكتفى..سأل بصوته الأجش "سائق جديد؟" 


هالة من النور إكتسحت وجه سامي النحيف و إبتسم إبتسامة عريضة ثم رفع صوته بسعادة فقد نال الشرف أخيرا كي يعرف عن نفسه لقدوته "نعم..سائقكم الجديد سامي يا سيادة القاضي..خريج كلية الحقوق..و معجب كبير بحضرتكم..أنت مثال للرجل الشهم العادل..أنت الأداة التي تتحقق بها العدالة..أنت بطل حقيقي و بفضلك أنت أحببت مجال دراستي و تخرجت فيه بتفوق..سأسعى جاهدا لتحقيق حلمنا المشترك مسبقا..عالم منعدم الجريمة تسوده العدالة و تتحقق فيه المساواة بين الأفراد..أكثر عالم مزدهر على مر العصور كلها و.." 


القاضي مقاطعا إياه.."ياله من حلم طفولي..ماذا سنأكل بعدها إذا؟" 


"عفوا؟" 


"أقول ماذا سنأكل أنا و أنت في عالم منعدم الجريمة يسوده العدل و المساواة..هل نتسول؟ ألسنا نعيش على خطايا الأشرار؟" 


"كنت أقتبس من أقوالك فقط سيدي" 


"المدينة الفاضلة..هراء قديم من مخلفات أفلاطون..ذلك المكان الأسطوري الذي يحكمه الفلاسفة و العقلاء الأسوياء..بحيث يكون كل شيء فيها مثاليا..إنها تتنافى تماما مع طبع البشر الأناني..ستضل مجرد إرث قديم من إحدى الحضارات البشرية الغابرة..حتى يفنى جنسنا و يرتاح منه هذا الكوكب" 


صمت سامي لفترة فهو لم يكن يتوقع ذلك ثم قال محاولا التعرف على القاضي أكثر"أجدها ممكنة..هناك من لهم حس عدالة عالي..و أتوقع أن أغلب البشر يمتازون بحس إنساني جيد..إنها الفطرة" 


"الأنانية فطرة أيضا..أخبرني لماذا إخترت أن تكون محاميا؟" 


"كما أخبرتك مسبقا..أريد أن يسود العدل..أريد القضاء على الشر" 


"كي تبدو بطلا؟ كم أن ذلك أناني" 


"لا..حسنا..الأمر ليس كذلك..أريد فقط أن أكون سببا العيش الهانىء السعيد للآخرين" 


"لماذا؟" 


"سنعود حينها للنقطة الأولى..كي نعيش في عالم نظيف خال من الأشرار" 


"حسنا..أوافقك سنعود للنقطة الأولى..النقطة التي ذكرتها أنا..عالم خالي من الجريمة فيه عيش كريم و هانىء سيجعلك تعيش مرتاح البال..لن يسرق أحدهم أشيائك و لن يضرك أحدهم بشيء..ذلك من أجل نفسك..إذا ما يزال هدفا أنانيا" 


"لا أفهم يا سيدي لماذا تستميت في محاولتك لتحويل هدف نبيل إلى أناني؟" 


"تقول إن إسمك سامي صحيح! أسألك إذا يا سامي..و لنفرض أنك لست من هذا الكوكب..لا تعيش فيه أو أنك غير متواجد بالأصل..هل سيهمك جدا إن كان غارقا في السعادة؟" 


"لا أدري لم أفكر بذلك؟" 


"ماذا يعني لك كوكب خالي من الجريمة لا تتواجد أنت فيه ولا تنتفع منه في شيء هل سيهمك ذلك حقا؟" 


"أعتقد أنه سؤال بحاجة لبعض من التفكير..ربما لا يمكنني الإجابة عنه الآن..لكنني مازلت مصرا على أن هدفي نبيل و السعي من أجل تحقيقه رغبة لا تعلوها رغبة أخرى بالنسبة إلي" 


"حسنا..إذا تعتقد أنك في الجانب الخير؟ كيف أدركت ذلك؟" 


"ذلك بسيط لأنني أنبذ كل ماهو شرير..أنا ضد ذلك تماما..أنا عكس الشر" 


"كم أن ذلك يشبه جدلية السيد و العبد لجورج فريدريك هيغل ألا تعتقد ذلك؟ خلال علاقة العبد بالسيد يدرك العبد أنه عبد و السيد أنه سيد..بنفس الطريقة وجود الشر من الإساس هو ما جعلك تدرك بأنك خير..وجود الشر مهم في فهمك لذاتك و تصنيفك لها..تخيل لو ولدت في عالم منعدم الشر!..كيف سيؤثر ذلك على نشأتك و شخصيتك؟ ليس بالضرورة أن يكون أثره طيبا..قد يكون مملا لدرجة رغبتك في خلق الشر بذات نفسك..و ستعتمد في ذلك على أنانيتك التي ولدت بها..على الأغلب..الناس تسرق كي تزداد ثراء و تقتل عندما تشعر بالغضب و الإستياء و تفعل جرائم أشنع من كل ذلك و كله يحصل كي تشعر بالرضا أي أنها أهداف أنانية بحتة.." 


"أرأيت يا سيدي كيف أن الشر أناني؟ الشر فقط..لأن الأنانية صفة شريرة" 


"دعني أكمل الجزء الثاني من الحديث..هناك من سيرد على الأفعال الشريرة تلك طبعا و ربما سنسميهم أخيارا لأنهم عكس الشر كما كنت تقول..حسنا..سينقسم أولئك لأنواع..بعضهم ينبذ الشر لأنه يكره أن يطاله..هذا الشخص يؤيد مبدأ دعني أعيش بحرية و سلام و سأدعك تعيش بسلام أيضا..و هناك من يقابل الشر و يردعه بعنف بسبب أذى تعرض له شخصيا أو كي يبدو بطلا..و بعضهم يحاول الإبتعاد عن الجريمة قدر المستطاع و يرفض التعدي عن حق أي أحد فقط ليحظى بنومة هانئة خالية من الملامة و تأنيب الضمير و كلها أهداف أنانية أيضا و لنفرض أنها أنانية بشكل ينعكس إيجابا..أود سؤالك..ألم تمضي عليك لحظة تمنيت فيها لو أنك قادر على قتل شخص أغاضك بشدة؟ أو على الأقل لكمه بقوة على وجهه المستفز القبيح" 


يبتسم سامي و ثم يقول "أستاذ الرياضيات من الثانوية ربما" 


"أرأيت كيف أنك لست طيبا بالمطلق؟..لا تقلق ما تزال رغم ذلك إنسانا سويا..الأنانية صفة محمودة و نحن بحاجتها أحيانا..لولاها لما تمكن نوعنا من الإستمرار في خضم صراع البقاء ربما..كنت لتدرك ذلك بسهولة لو أنك درست الأحياء أو على الأقل إهتممت بها لفترة" 


"حسنا..لا تؤمن بالعدالة يا سيدي؟ ماذا إذا عن كل الخطابات و التصريحات التي ألقيتها؟" 


"أرد على ذلك فأخبرك بأن لا تصدق من الأخبار شيئا بخلاف التقرير عن الأحوال الجوية" 


يطلق سامي إبتسامة فيها من الصدمة أكثر ما فيها من الإعجاب و لكنه مازال يجد ما سمعه مثيرا للإهتمام.. 


ثم يقول و الإبتسامة لم تفارق شفتيه بعد"هل كنت تفتح هكذا مواضيع مع كل السائقين! أفهم الآن لماذا إستقالو..لابد و أن الخوض في نقاشات مماثلة بشكل شبه يومي شيء مرهق جدا..لكن ذلك يروقني لا أعتقد أنني سأضع ورقة الإستقالة على مكتبك..قد تضطر لطردي بنفسك يوما ما..يعجبني أن أضع رأسي كل ليلة على الوسادة لأفكر بموضوع أكثر إثارة من التفكير في أي وجبة ستكون متلائمة مع مزاجي بالغد..لست كما كنت أتخيل..لقد فاجأتني يا سيدي و لكنني ما أزال معجبا بك!"