عيد ميلاد كئيب
"آخ يا صديقي يموت فيك كل شيء و تبقى الغريزة..تغادرك الرغبة في الحياة و تتناثر كل أحلامك في الهواء و بالرغم من ذلك مازلت تجوع فترغب بالطعام..ثم تستلقي على فراشك لتنام و ترجو أن تفتح عيناك مجددا على هذا العالم في الغد بكل وقاحة..رغم أنك تدرك بأنه سيكون يوما آخرا مملا و طويلا و شاقا كسابقيه تماما و سيجعلك تتمنى لو أنك لم تولد..لكنك ما تزال تريد أن تحياه..لا أدري إن كان ذلك ما يسمى بالأمل أو أنها فقط غريزة البقاء و أطلق عليها البشر أسماء معينة لتلميعها و جعلها شيئا جميلا و إستثنائيا"
قال فادي ذلك وهو رجل أربعيني نحيل..طويل الأطراف ذو فك بارز و لحية خفيفة شائكة كصبار قزم..و شفتان ثخينتان و انف محدودب..يمتاز بنظرته الثاقبة البائسة..يمكن لأي أحد أن يعد أهداب عينيه القليلة كما يمكن أن يعد الشعرات المتبقية على جانبي رأسه.
و ربما بسبب حياته التي يجدها مملة و يائسة..يبدو أكبر من سنه بقليل..و أسنانه الخلفية ترتعد مهددة بالسقوط..و قد عاد للتو من العمل وهو يعاني مجددا
من ذلك الألم المزعج الذي يسري في صدغيه كالكهرباء..يرغب في أن يقوم ليحضر فنجان قهوة لكنه يفضل الجلوس بكسل على الأريكة حتى يتخلص من التنميل الخفيف الذي يشعر به في قدميه بسبب سيره لفترة طويلة عائدا من عمله المضجر.
و هو يرغب بشدة الآن في أخذ غفوة على الآريكة لبعض الوقت لكن صديقه "أدولف" ذي اللون البني و الذي كان يمتلك بقعة وبر سوداء مختلفة اسفل انفه تشبه شارب "أدولف هتلر"..يقف بقرب قدميه..يستمع لحديثه الذي لا يفهمه غالبا و يضرب بذيله على الأرض..إنه لا يأبه لمشاعر فادي..فقد ناضل حتى يعود للبيت أيضا و يجب أن يحصل على حصته من الطعام الآن..في هذا الوطن من الصعب أن تكون كلبا حتى..فلا يمكنك أخذ جولة بسيطة في الحي دون أن يقذفك الأطفال بالحجارة..و يداعب البالغون ظهرك بفضاضة و قساوة..و يفر منك الناس الذين يعبرون الحي صدفة معتقدين أنك كلب مشرد متوحش لمجرد أنك كلب من سلالة أقل تميزا و نوعك منتشر في البلد بكثرة..و قد إستلقيت لساعة بقرب الباب منتظرا عودة صاحبك لإطعامك و في النهاية يتجاهلك ليجلس دهرا على
الأريكة..يتفوه بهراء غير مهم بالنسبة إليك.
تحت تلك النظرات البريئة و اللهاث المستميت ما كان على فادي إلا أن يجر قوائمه الطويلة نحو المطبخ و يضع الطعام من أجل أدولف..ثم يضع القهوة على النار و يقف كي يراقب أدولف يقضم طعامه بنهم..لتعلوه بعدها إبتسامة خافتة و يقول "إنظم إلينا موظف جديد..شاب صغير تخرج قبل بضعة أشهر..لقد كان أنيقا يرتدي قميصا مكويا جيدا..ذو لون أزرق فاتح و ياقة بيضاء..بدا واثقا من نفسه و يبدو أن له علاقة بأحد معارف المدير..أجل لقد حصل على المنصب بالواسطة يا أدولف لا تنظر إلي هكذا أنت تعرف جيدا كيف تسير الأمور هنا"
يتحرك بعدها فادي نحو الثلاجة يخرج قطعة شوكولاطة ملفوفة في ورق ألمنيوم ليضعها على الطاولة..ثم يعود ليقف بقرب ابريق قهوته الايطالي..منتظرا أن تجهز..يشرد قليلا و يبتسم مجددا ليضيف.."لقد تعثر عند المدخل و لم يكن يجيد استعمال احد برامج الحاسوب جيدا..قد إستعان بي عدة مرات..إستعان بي انا!..رغم انني ذلك الموظف القديم
المتخرج في جيل اللوحة و الطباشير و الكتب الورقية..يستعين بي لأعلمه كيفية الحساب بإستخدام برنامج ما..يقول انه ليس متمرسا و استعمل حاسوبه فقط لأغراض ترفيهية بحتة..لكنه شاب لطيف رغم قلة كفائته..بعد الحديث إليه..تبين أنه يلقي نكات جيدة..ربما سيجعل من ذلك المكتب الكئيب مكانا أكثر مرحا"
القصة كانت مجرد تعويذات غريبة عديمة الفائدة بالنسبة لأدولف لذا لم يهتم كثيرا..فقط اعتدل في جلوسه و لعق انيابه الحادة دون ان يبرح مكانه..إنه يطالب بالمزيد..فيعبىء فادي من اجله الوعاء عن آخره و يعود ليشرد..حتى يوقظه شخير يتبعه صفير منطلق من الابريق..القهوة جاهزة..لذا يسرع فادي و يضع ملعقة سكر واحدة في قدحه الزجاجي المقاوم للحرارة و يملأه عن آخره..ليجلس بعدها إلى الطاولة..يذيب السكر الذي بالكاد يستشعر حلاوته..و ثم يرتشف رشفة واحدة سريعة..و يعود ليضع القدح على الطاولة.
يفكر قليلا ثم يقول "أتريد أن تعرف بعدها كيف كان يومي يا أدولف؟..أعلم أنها ستكون قصة مملة..لكن
دعني أرويها..لقد عدت سيرا من العمل..كانت الشوارع مزدحمة جدا..و كادت حافلة قديمة أن تنهي حياتي البائسة عند منعطف الشارع الكبير..لقد شتمني سائق الحافلة..لكنني لم أرد لأنني كنت المخطىء..شردت بينما أعبر إلى الجهة المقابلة..لقد كنت أفكر في شراء علبة سجائر بما ان العلبة القديمة لم يتبقى فيها سوى سيجارة واحدة..و ثم تذكرت بأن الكشك الذي اعتدت شراء السجائر من عنده في الجهة الأخرى و انا قد سلكت طريقا مختلفا..و بعدها بدأت أفكر في الأكشاك المتبقية على طول الطريق و أيهم أقرب إلى حيث أنا..حتى كادت تلك الحافلة أن تدعسني..فتكون سيجارتي الآخيرة هي تلك المملة التي دخنتها في إستراحة الغداء بعد تناولي لقطعة بيتزا يابسة و شربي لعصير لم يكن باردا كما ينبغي..وعلى ذكر ذلك..دعني أجلب علبة سجائري.."
يقوم فادي من مكانة يضع يده بالجيب الداخلي لسترته المرمية على ظهر الآريكة..ليخرج بعدها سيجارة..يضعها بهدوء بين شفتيه و يخرج القداحة من جيب بنطاله بينما يسير عائدا نحو الطاولة..بعد محاولتين فاشلتين يشعل سيجارته في المحاولة الثالثة..يمتص روحها بكل ما أوتي من القوة..ليزفر بعدها زفيرا قويا منشئا بذلك ضبابا رماديا يحوم حول وجهه و صلعته اللماعة.."الآن بدء يتحس مزاجي"..يجذب الكرسي مجددا و يجلس ليأخذ رشفة من قهوته تلتها إبتسامة أخرى وهو يشاهد أدولف يتوجه نحو الأريكة بعد أن أنهى الدفعة الثانية من طعامه
"إسمع يا أدولف..عندما وصلت إلى العمارة كان هناك أربعة فتية من أبناء الحي..أعمارهم تتراوح بين الثالثة عشر و السادسة عشر..لقد صمتو عندما مررت بجانبهم على غير العادة..لم يلقو علي التحية و ظلو ينتظرون صعودي الدرج حتى يتمكنو من مواصلة حديثهم..لذا إدعيت بأنني صعدت بينما توقفت في منتصف الدرج أنتظر إستئنافهم للحديث..لقد كانو يتحدثون عن فتاة ما..و يصفون مؤخرتها..لذا واصلت صعود الدرج ركظا حتى لا أنفجر ضاحكا و أفضح نفسي.."
"إنني أشتاق إلى ذلك أتدري؟..أقصد إلى تلك المرحلة من العمر..حينما كان الحديث في هكذا أمور له طعم شهي غريب..كان لدينا فضول قوي..و سن البلوغ لا يعاملنا برفق أبدا..إستيقظت في صباح ما فجأة..لأجد
أنفي هكذا..كبيرا كمنقار طائر الطوقان..و نمت حبوب مزعجة على جبيني..صوتي أصبح أجشا..و نمت لي لحية و شارب و لست بحاجة لأحدثك عن الأمور التي بدأت تحصل بداخل البنطال..كل شيء قد تغير..
كنت حينها أعيش مع أبوي و إخوتي بعمارة كهذه..لكن أدوارها كانت أقل..لم تكن مبنية بحرفية..و كان لي فيها صديقان مقربان..و آخرون أعرفهم سطحيا لأنهم كانو يشاركوننا لعب الكرة..كنت بسن الرابعة عشر..و كنا في امسيات الصيف الحارة..نجلس تحت ظل شجرة ما ننتظر أن تزول أشعة الشمس الحارقة كي نلعب..و خلال ذلك..كنا نتجاذب أطراف الحديث"..
يأخذ نفسا من سيجارته و يواصل.."لقد كنا نتبادل معلومات خاطئة تماما عن الجنس و الفتيات..لم تكن المواد الإباحية متوفرة كالآن..لكننا شاهدنا بضعة أفلام رغم ذلك..فكما تعلم يا صديقي..العائلات هنا تخجل من تقديم تربية جنسية سليمة لأبنائها..أو بالأحرى فهم لا يعرفون شيئا أيضا..تفضل العائلات أن يتلقى أبناؤهم هكذا معلومات من مصادر خاطئة مبنية على الخيال و الهراء..و أراهن أن ذلك هو ما يسبب أغلب مشاكل
المجتمع إن لم تكن كلها..سبب ذلك في تشويه صورة الجنس و الحب و الأسرة و الأنثى و الرجل و كل شيء..مجموعة جهلة يثرثرون حول شيء يجهلونه..فتيان يشعرون بالفضول تدفعهم الغريزة و الهرمونات..كنا مثيرين للشفقة"
يضحك عاليا و يرتشف مجددا من كوبه.."و لكن عندما أعود إلى الصبى مجددا..لا أجد ذكرى أجمل من الحب الأول..هل تقع الكلاب أيضا في الحب؟..أم أنكم لستم بحاجة لفخاخ تنصبها لكم الطبيعة حتى تلبو نداء الغرائز..أعذرني و لكنك ممل رغم وفائك..تعال يا صاحبي..سنتقاسم قطعة الشوكولا هذه ثم أحدثك عن حبي الأول.."
يشق ورقة الألمنيوم فيركظ الكلب نحوه مباشرة..لقد إعتاد الحصول على حصته من كل شيء..يبتلع قطعة الشوكولا و كأنها حبة دواء ما ثم يعود مجددا للأريكة..يضع فادي قطعة الشوكولا في فمه بعد ان اطفأ سيجارته..يمتصها بهدوء فأسنانه لم تعد تفتت أي شيء يمتاز بقليل من الصلابة..و باتت أغلب وجباته تحتوي على مرق كي تكون سهلة و طرية و لا تتطلب ضواحك
و طواحين كتلك التي كان يمتلكها في صباه..قبل أن يجرب طعم السجائر..
"كما سبق و أخبرتك يا صاحبي..كنت في الرابعة عشر من عمري..و كانت هي تعيش بالعمارة المقابلة..بالطابق الثالث تحديدا..لقد كان جمالها قاتلا..فتاة صهباء بمسحة ملائكية من النمش على ظهر أنفها و وجنتيها..كأنها حبات رمل متناثرة على ندف ثلج ناصعة البياض..عيناها العسلتيان تشتعلان غرورا و عندما ترفع شعرها الاحمر تهرب خصيلات لتتدلى على الطرفين بشكل مغري..لم تكن تضع اي مساحيق تجميل بخلاف احمر شفاه مخملي..يجعل شفتيها أكثر إغراء..نمط جمال ليس دارجا عندنا نادرا ندرة الآلىء..تكبرني بثلاث سنوات..و لم أكن الوحيد المغرم بها في تلك المنطقة الحقيرة..لكنني كنت الوحيد الذي لم يدعوها بالعاهرة.
إعتقدت سابقا أن العاهرة هي التي تبيع جسدها مقابل المال لكنها كانت عاهرة لأنها عكس ذلك..عنيدة..صعبة المراس..بل يستحيل الوصول إليها بأي شكل من الأشكال..يسهل فقط رشقها بكلمة عاهرة..كلما خرجت إلى الشرفة أو فتحت نافذة غرفتها..توقفنا عما نفعله و
بدأنا في التلصص و إستراق النظر..و إنطلقت الهمسات..هاهي تلك العاهرة..و لكن لماذا هي كذلك! فقط لأننا جميعا كنا نتخيل الحيازة على جانب من فراشها..هكذا هم الكثير من الفتيان..بعد أن نتخيل فتاة ما حتى نمل من ذلك..نفترض ان تلك حقيقة حدثت بالفعل..فنسمي الفتاة عاهرة..رغم أن مخيلاتنا هي العاهرة..أي فتاة بإمكانها أن تكون متاحة للجنس ولو في الخيال..فهي عاهرة..لا أدري لماذا يحصل هذا..لقد تم تشويه مفهوم العهر تماما..كغيره من المصطلحات
إنني لا أبرىء نفسي تماما..لا أقول بأنني لم أتخيل نفسي ألمس نهديها الناضجين أو أتذوق شفتيها أو أقوم بأشياء أكثر جرأة من ذلك و لكن..لم أكن وقحا بما يكفي كي أنعتها بالعاهرة..لقد كنت معجبا.
إنها مهرة أصيلة عنيدة صعبة الترويض..أختبىء دائما خلف شيء قبل ان انظر إليها..لأن نظرة واحدة من عينيها في عيناي كانت تفعل بي أشياء لا أستوعبها جيدا..قلبي يخفق بشدة..و ألم خافت يخز معدتي..و ركبتاي تبدآن في الإرتعاش ولا أريد أن أبدو في ذلك المظهر البائس..فقط من الأسفل كنت أرفع رأسي عاليا
كي آراها..كانت كتلك اللوحات العتيقة للملائكة و القديسين التي ترسم على أسقف الكنائس..رهيبة و جميلة و قدسية..حاولت أن أجد الطريق إلى قلبها قبل فراشها..و قد كان ذلك ضربا من المستحيل.
ذات نهار و انا اسير في الشارع عائدا الى البيت..نادت علي و ضربتني بحصاة صغيرة على كتفي حتى ألتفت..قالت لي تعال إلى هنا..لكن من فرط صدمتي لم استوعب أنها تكلمني..تأكدت منها ان كانت تكلمني حقا لثلاث مرات ربما..و بدوت كالأبله..و بالرغم من ذلك فلا بأس..لو لم أكن أبلها لما نادت علي..فهي لا تأتمن بقية الذئاب..صعدت الدرج بسرعة و عندما وصلت وجدتها تنتظر عند الباب.
لقد كانت أطول قامة مني..أكثر جمالا عن قرب..و عطرها كما توقعته هادىء ناعم لطيف..وقفت في حضرتها كصنم لا حياة فيه..متسمرا في مكاني..أكاد لا أتنفس حتى.
طلبت مني ان اقترب ووضعت في يدي مبلغا من المال..قالت بصورة باردة جافة بها قساوة و ربما بعض
من الإستحقار.."أبي ليس هنا ولا إخوتي..تطلب مني والدتي النزول لشراء بعض الأغراض لكنني لا أريد ذلك..لذا فلتشتري من أجلنا قنينتي ماء و كيس سكر و سيجارتين و إحتفظ بالباقي لنفسك"..لم تستعمل كلمتي "رجاء" و "لطفا" أو ما شابه و كأنها كانت تدرك بأنني سألبي رغبتها أيا كانت و لا أناقشها في شيء..قمت بهز رأسي بالموافقة و عدت ادراجي..فلحقت بي و شدتني من القميص..ثم همست بحذر.."لا تخبر أحدا بشأن السيجارتين..فليكن ذلك سرنا الصغير" مجددا قمت بهز رأسي و نزلت الدرج كالصاعقة..إشتريت الحاجيات و عدت بها مسرعا.
فوجدتها بمكانها لم تبرحه..اعطيتها الأغراض..فأسرعت بإخراج السيجارتين من الكيس و أخفتهما خلف القميص..بين نهديها البارزين..إبتسمت لي و ثم دخلت و كادت تغلق الباب..كنت حينها أريد قول شيء ما..لا أدري ما كنت أود قوله..لكنني رغبت في أن أبقيها قريبة قليلا بعد..فقلت "ليس هناك باقي..لم يتبقى شيء من المال..السجائر إرتفع ثمنها"..توقفت و بقيت تنظر إلي لفترة..كانت تعتقد أنني أرغب فيما تبقى من النقود و لكن لم يكن ذلك ما قصدته.
و لم أتوقع أن تتصرف بعدها بذلك الشكل..إلتفتت خلفها لتتأكد بأن والدتها ليست بالجوار..ثم قالت لي " ليس معي مال إضافي أهبك إياه..و لكن تعال إقترب" إقتربت بضع خطوات فدنت مني بشكل سريع و طبعت قبلة على خدي ثم أغلقت الباب.
كان ذلك آخر شيء توقعته..و أثمن من أي مبلغ كان ليعرضه علي أحدهم في ذلك اليوم السعيد..بقيت واقفا أحدق بالباب لما يقارب دقيقتين..أحاول إستيعاب ما حصل منذ برهة..و ثم إنفجرت بداخلي طاقة عنيفة لم أدرك مصدرها..فإنطلقت أركض بأقصى سرعتي نحو وجهة أجهلها..و إبتسامة عريضة ترتسم على وجهي المشوه بأثار لفحات الشمس..كان بإمكان أي شخص يمر بجانبي أن يلمح السوس البغيض الأسود الذي كان ينخر أسناني الخلفية..و صوت خطواتي السريعة كان يتكرر صداه في شارعنا و الشارع الذي بعده.
لم أعد يومها إلى البيت باكرا..لقد لعبت ثلاث مباريات متتالية و أنا بكامل نشاطي..تحداني أحد ما في عراك و قال أنه سيدفع لي إذا فزت و فزت بالفعل..لم يكن
أحدهم يتوقع ذلك..لقد كنت فتا نحيلا..أجيد الركض و لكن لكمة واحدة من بقية الفتية قادرة على قذفي لبضعة أمتار..و رغم ذلك فزت..لأن الطاقة التي أشعلتها بداخلي تلك القبلة قادرة على إحداث إنفجار كالإنفجار العظيم بحد ذاته..ربما لو إنفجرت لحظتها..لإنطلقت مني نجوم و كواكب.
لكن ما يسعدنا لا يدوم للأبد..في الحقيقة قد لا يدوم ليوم واحد كامل..عدت متأخرا إلى البيت..ببعض الكدمات على بدني و كثير من الطين و الغبار على ثيابي..تفاجأت بذلك الصمت الجنائزي المخيم على أجواء البيت..تنظر والدتي إلي بحسرة و خيبة أمل..و ينظر أبي إلي بغضب لم أفهم مصدره..تشير لي شقيقتي بحاجبيها و كأنها تطلب مني الفرار لمكان ما..و يواصل أخواي الكبيران تناول طعام العشاء في الغرفة المقابلة دون قول أي كلمة.
"أنا جائع"..قلت ذلك و بقايا الإبتسامة ما تزال عالقة بشفتي..لكن رد علي والدي بصفعة قوية أفقدتني توازني عدت بضع خطوات للخلف مستغربا..من فرط استغرابي بقيت مبتسما..لا أفهم من أجل ماذا تلقيت
الضرب..و قبل أن أسأل حتى..صرخ في وجهي أبي بكل ما أوتي من قوة.."تدخن يا حقير؟".
" أنا أدخن؟ لا!..من قال هذا؟" سألته و أنا لا أفهم لما قد يكون متيقنا لهذا الحد..فزفر بقوة ثم أجاب "تستغبيني؟ صاحب البقالة قال أنك إشتريت سيجارتين اليوم"..لم أعرف حينها ما كان علي قوله..لكن كان يجب أن أقول أي شيء بخلاف أن السيجارتين تخصانها..فبعد كل شيء و فضلا عن كوني عاشقا أنا مدين لها بالسعادة التي ملأت قلبي لسويعات في ذلك اليوم و جعلته مميزا بدلا من كونه يوما صيفيا عاديا و مملا.
لقد قلت "إنها أول مرة..أنا آسف..سأقلع عنه..لن أدخنه مجددا"..لكن ذلك لم يحد من غضب أبي..بل أشعله أكثر..و نزع ما كان ينتعل بقدميه يود أن يبرحني ضربا به..حاولت والدتي منعه و خلال ذلك فررت أنا للخارج..و قفت في أسفل العمارة ملتصقا بالجدار..خائفا و جائعا و طفحت الدموع من عيناي دون أن أتمكن من منعها.
كان الحي خاويا..أغلب أعمدة الإنارة لا تعمل و عمود
وحيد في منتصف الشارع ينير و ينطفىء كالبرق..صوت نباح الكلاب عالي و قهقهات بعيدة من الشارع الآخر لبضع فتية مخمورين ترن في أذني كأزيز ذبابة مزعج..أنا جائع جدا..و أريد قضاء حاجتي بشكل ملح..أريد الحصول على حمام سريع و شرب كوب ماء بارد و ثم النوم بسلام..تحركت بضع خطوات و وقفت مقابلا الجدار الآخر من العمارة..فتحت السحاب بهدوء..و رحت أتبول على الجدار كمراهق قذر قليل أدب..إلتفتت أثناء قيامي بذلك و رفعت رأسي لأحدق بنافذة غرفتها.
كان شيش نافذتها مفتوحا..لكن الغرفة مظلمة..بقيت أحدق بعض الشيء..فأومض شيء ما من الغرفة..إنها سيجارتها ..لقد كانت تدخن عند النافذة..خشيت أنها تراني..فأسرعت بإخفاء صديقي الصغير بين فخذاي مجددا و أغلقت السحاب بسرعة..عدت لأقف قرب باب العمارة و مازالت عيناي مثبتتان على نافذتها..و عندما ومض عمود الإنارة..شاهدت يدها تلوح لي من خلف الدخان الذي أحدثته سيجارتها.
تلك التي أقف بسببها..حانقا غاضبا بائسا و أتضور
جوعا..لكن بمجرد أن شعرت بأنها تستمتع بوقتها بينما تدخن..عادت تلك الطاقة لتبعث في روحي..شعرت و كأنني تلقيت العقاب بدلا منها..و تحول ذلك لمصدر فرح بدلا من كونه مصدر كئابة و غضب..ثم تذكرت المال الذي كسبته من الرهان و توجهت نحو أحد الأكشاك.
فإشتريت طعاما خفيفا أملؤ به معدتي و سيجارة..أجل يا أدولف..كانت تلك سيجارتي الأولى..ثم عدت لأقابلها..أشاهدها تدخن و أدخن أيضا لأول مرة..لم أكن خائفا من أبي..لم أكن خائفا من أي أحد..كنت أسعل بشكل محرج و كلما أومض عمود الإنارة..رأيت ملامحها الضاحكة من خلف الدخان..مازلت أرى ذلك المنظر كلما أغمضت عيناي بقوة..لهذا لن أكتفي من السجائر حتى تقتلني.
و كادت تقتلني بالفعل في هذا اليوم..إنه يوم ميلادي الثالث و الأربعين..أمضيه هنا في شقتي وحيدا مع كلب عجوز..لو سألتني في ذلك الوقت كيف ستكون في الثالثة و الأربعين من عمرك! لكانت إجابتي حتما مليئة بالتفاؤل..ربما كنت لأخبرك بأنني سأكون رجلا ذو منزلة..و أب لثلاث فتيان و ثلاثة فتيات بشعر أحمر
ملتهب ينتشرون في بيتي الفخم و يثيرون الصخب..و زوجتي التي تكبرني سنا ما تزال جميلة كما إعتادت أن تفعل..مغرية جدا و فاتنة..تشرب قهوتها كل صباح رفقتي على طاولة خشب مستديرة في الشرفة..و أمطرها حبا و غزلا كما وددت دائما أن أفعل.
لكن أنظر إلي يا أدولف..كهل أصلع قبيح..مدمن سجائر..حياته مملة..لا أصدقاء من حوله و لا حبيبة تشاركه شقائه..و حتى إخوتي لم يتصلو اليوم ليتمنو لي عيد ميلاد سعيد..لكنني أتفهم..أبناؤهم مشاغبون..حاجاتهم كثيرة و الوقت ضيق و الأعباء لا تنتهي.
أين هي الآن يا ترى؟..ربما تزوجت من رجل صارم كوالدها..جاد جدا و قادر على تكوين أسرة متماسكة..ربما هي شخص ناجح الآن!..قد يكون طفلها البكر بالثانوية..أو قد تكون غير مرتبطة لحد الساعة..لطالما إعتقدت أنها لا تحب الفتيان..نبدو لها جميعا كالحثالة..لعابنا يسيل على مفاتنها..نصف تفكيرنا بعقولنا و بقيته بين فخذينا..أو ربما كله هناك في بعض الأحيان.
إن كانت ترجو كتفا حانيا و صدرا يحتويها..فلن تضع يديها الصغيرتان الناعمتين بيدي رجل يملك مخالب ذئاب و أنياب ذئاب..و لكن بغض النظر عن كل شيء..ما تزال هي أجمل ذكرى..سأحملها في قلبي حتى اليوم الذي تقضي فيه السجائر اللعينة على حياتي..نفس تلك السجائر التي جعلت الحياة تدب في روحي قبل سنوات طويلة مضت.
يصمت للحظات و ثم ينظر إلى كلبه مليا..كان هذا الآخير غافيا على الآريكة لا يبالي لا بفادي و لا بقصته ولا بيوم ميلاده..كل ما كان يهم..أنه شبعان و يرغب الآن في أخذ غفوة.
ضحك فادي و هو يقوم من على الكرسي "قصة مضجرة؟ قد أخبرتك بذلك قبل أن أرويها..و لكن أعدك بأنني سأقصها عليك مجددا في عيد ميلادي القادم..إن كنت لا تود سماعها فإحرص على إيجاد أصدقاء من أجلي أو حبيبة تتلاقاها بدلا منك".
إرسال تعليق